ومن خطبة له (عليه السلام)
[يصف فيها المتقين]
روي أنّ صاحباً لاميرالمؤمنين(عليه السلام) يقال له همّامٌ كان رجلاً عابداً، فقال له: يا أميرالمؤمنين، صف لي المتقين كأني أنظر إليهم.
فتثاقل عن جوابه، ثم قال(عليه السلام): يا همّامُ، اتقِ اللهَ وأحْسِنْ فَـ (إنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)
فلم يقنع همّامٌ بِذَلِكَ القول حتّى عزم عليه.
____________
1. عُمّار ـ جمع عامر ـ: أي يَعَمُرونه بالسهر للفكر و العبادة.
2. يَغُلّون: يخونون.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 478
--------------------------------------------------------------------------------
قال: فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبي(صلى الله عليه وآله)، ثم قال(عليه السلام):
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ـ خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لاَِنَّةُ لاَ تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلاَ تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ، وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ.
فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ:
مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الاْقْتِصَادُ(1)، وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ.
غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ(2) عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ.
نَزَلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلاَءِ كَالَّتِي نَزَلَتْ فِي الرَّخَاءِ(3).
لَوْ لاَ الاَْجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْن، شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ، وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ.
عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا
____________
1. ملبسهمُ الاقتصادُ: يلبسون الثياب بين بين، لا هي بالثمينة جداً ولا الرخيصة جداً.
2. غَضّوا أبصارهم: خفضوها وغمضوها.
3. نزّلت أنفسهم منهم بالبَلاء: أي أنهم إذا كانوا في بلاء كانوا بالامل في الله، كأنهم كانوا في رخاء لا يجزعون ولا يَهِنون، وإذا كانوا في رخاء كانوا من خوف الله وحذر النقمة، كأنهم في بلاء لا يبطرون ولا يتجبّرون.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 479
--------------------------------------------------------------------------------
مُعَذَّبُونَ.
قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ.
صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مَرْبِحَةٌ(1)، يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُم.
أَرَادَتْهُمُ الْدُّنْيَا وَلَمْ يُرِيدُوهَا، وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أُنْفُسَهُمْ مِنْهَا.
أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لاَِجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً(2)، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ(3) بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ(4) جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا(5) فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى
____________
1. أرْبحت التجارة: أفادت ربحاً.
2. الترتيل: التبيين والايضاح.
3. استثار الساكنَ: هيّجه، وقارىء القرآن يستثير به الفكر الماحي للجهل.
4. زَفِير النار: صوت توقّدها. 5. شهِيق النار: الشديد من زفيرها كأنه تردد البكاء.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 480
--------------------------------------------------------------------------------
أَوْسَاطِهِمْ(1)، مُفْتَرِشُونَ لِجَبَاهِهِمْ(2) وَأَكُفِّهِمْ، وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللهِ فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ(3).
وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ، قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ(4)، يَنْظُرُ إِلَيْهمُ الْنَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَض، وَيَقُولُ: قَدْ خُولِطُوا(5)! وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ!
لاَ يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، وَلاَ يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ، فَهُمْ لاَِنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ(6).
إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهْمْ(7) خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ
____________
1. حانُون على أوساطهم من حَنَيْتَ العودَ: عَطَفْتَه، يصف هيئة ركوعهم وانحنائهم في الصلاة.
2. مُفترِشُون لجباههم: باسطون لها على الارض.
3. فكاك الرّقاب: خلاصها.
4. القِداح ـ جمع قِدْح بالكسر ـ: وهو السهم قبل أن يُرَاش. وبَرَاه: نحَتَه، أي رقّق الخوف أجسامهم كما تُرَقَّق السهامُ بالنحت.
5. خُولط في عقله: ما زَجَهُ خَلَلٌ فيه، والامر العظيم الذي خالط عقولهم هو الخوف الشديد من الله.
6. مشفقون: خائفون من التقصير.
7. زُكّيَ أحدهم: مدحه أحد الناس.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 481
--------------------------------------------------------------------------------
غَيْرِي، وَرَبِّي أَعْلَمُ مِنِّي بِنَفْسي! اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ.
فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِين، وَحَزْماً فِي لِين، وَإِيمَاناً فِي يَقِين، وَحِرْصاً فِي عِلْم، وَعِلْماً فِي حِلْم، وَقَصْداً(1) فِي غِنىً، وَخُشُوعاً فِي عِبَادَة، وَتَجَمُّلاً(2) فِي فَاقَة، وَصَبْراً فِي شِدَّة، وَطَلَباً فِي حَلاَل، وَنَشاطاً فِي هُدىً، وَتَحَرُّجاً(3) عَنْ طَمَع.
يَعْمَلُ الاَْعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى وَجَل، يُمْسِي وَهَمُّهُ الشُّكْرُ، وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ، يَبِيتُ حَذِراً، وَيُصْبِحُ فَرِحاً، حَذِراً لَمَّا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ.
إِنِ اسْتَصْعَبَتْ(4) عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيَما تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيَما تُحِبُّ.
قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيَما لاَ يَزُولُ، وَزَهَادَتُهُ فِيَما لاَ يَبْقَى، يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمَ، وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ.
____________
1. قصداً: أي اقتصاداً.
2. التجمّل: التظاهر باليسر عند الفاقة أي الفقر.
3. التحرّج: عدّ الشيء حَرجاً أي إثماً، أي تباعداً عن طمع.
4. استَصْعَبَتْ: لم تطاوعه.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 482
--------------------------------------------------------------------------------
تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ، قَلِيلاً زَلَلُهُ، خَاشِعاً قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُهُ، مَنْزُوراً(1) أَكْلُهُ، سَهْلاً أَمْرُهُ، حَرِيزاً(2) دِينُهُ، مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ، مَكْظُوماً غُيْظُهُ.
الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ.
إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ.
يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ.
بَعِيداً فُحشُهُ(3)، لَيِّناً قَوْلُهُ، غَائِباً مُنْكَرُهُ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَيْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ.
فِي الزَّلاَزِلِ(4) وَقُورٌ(5)، وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ، وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ.
لاَ يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ، وَلاَ يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ.
يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ.
____________
1. مَنْزُوراً: قليلاً.
2. حَرِيزاً: حصيناً.
3. الفُحْش: القبيح من القول.
4. في الزلازل: الشدائد المُرْعِدة.
5. الوَقُور: الذي لا يضطرب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 483
--------------------------------------------------------------------------------
لاَ يُضَيِّعُ مَا اسْتُحْفِظَ، وَلاَ يَنْسَى مَا ذُكِّرَ، وَلاَ يُنَابِزُ بِالاَْلْقَابِ(1)، وَلاَ يُضَارُّ بالْجارِ، وَلاَ يَشْمَتُ بالْمَصَائِبِ، وَلاَ يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ، ولاَ يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ.
إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ، وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ.
نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاء، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَة.
أَتْعَبَ نفسه لاِخِرَتِهِ، وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ.
بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزاهَةٌ، وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنَهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ، لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْر وَعَظَمَة، وَلاَ دُنُوُّهُ بِمَكْر وَخَدِيعَة.
قال: فصعق(2) همّام رحمه الله صعقةً كانت نفسُه فيها.
فقال أميرالمؤمنين(عليه السلام): أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ: هكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ البَالِغَةُ بِأَهْلِهَا؟
فقال له قائل: فما بالك يا أميرالمؤمنين ؟
فقال(عليه السلام): وَيْحَكَ، إِنَّ لِكُلِّ أَجَل وَقْتاً لاَ يَعْدُوهُ، وَسَبَباً لاَ يَتَجَاوَزُهُ، فَمَهْلاً، لاَ تعُدْ لِمِثْلِهَا، فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ!
____________
1. لاينابز بالالقاب: لا يدعو اللقب الذي يكره ويشمئز منه.
2. صَعِقَ: غُشيَ عليه.
[يصف فيها المتقين]
روي أنّ صاحباً لاميرالمؤمنين(عليه السلام) يقال له همّامٌ كان رجلاً عابداً، فقال له: يا أميرالمؤمنين، صف لي المتقين كأني أنظر إليهم.
فتثاقل عن جوابه، ثم قال(عليه السلام): يا همّامُ، اتقِ اللهَ وأحْسِنْ فَـ (إنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)
فلم يقنع همّامٌ بِذَلِكَ القول حتّى عزم عليه.
____________
1. عُمّار ـ جمع عامر ـ: أي يَعَمُرونه بالسهر للفكر و العبادة.
2. يَغُلّون: يخونون.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 478
--------------------------------------------------------------------------------
قال: فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبي(صلى الله عليه وآله)، ثم قال(عليه السلام):
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ـ خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لاَِنَّةُ لاَ تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلاَ تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ، وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ.
فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ:
مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الاْقْتِصَادُ(1)، وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ.
غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ(2) عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ.
نَزَلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلاَءِ كَالَّتِي نَزَلَتْ فِي الرَّخَاءِ(3).
لَوْ لاَ الاَْجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْن، شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ، وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ.
عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا
____________
1. ملبسهمُ الاقتصادُ: يلبسون الثياب بين بين، لا هي بالثمينة جداً ولا الرخيصة جداً.
2. غَضّوا أبصارهم: خفضوها وغمضوها.
3. نزّلت أنفسهم منهم بالبَلاء: أي أنهم إذا كانوا في بلاء كانوا بالامل في الله، كأنهم كانوا في رخاء لا يجزعون ولا يَهِنون، وإذا كانوا في رخاء كانوا من خوف الله وحذر النقمة، كأنهم في بلاء لا يبطرون ولا يتجبّرون.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 479
--------------------------------------------------------------------------------
مُعَذَّبُونَ.
قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ.
صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مَرْبِحَةٌ(1)، يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُم.
أَرَادَتْهُمُ الْدُّنْيَا وَلَمْ يُرِيدُوهَا، وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أُنْفُسَهُمْ مِنْهَا.
أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لاَِجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً(2)، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ(3) بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ(4) جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا(5) فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى
____________
1. أرْبحت التجارة: أفادت ربحاً.
2. الترتيل: التبيين والايضاح.
3. استثار الساكنَ: هيّجه، وقارىء القرآن يستثير به الفكر الماحي للجهل.
4. زَفِير النار: صوت توقّدها. 5. شهِيق النار: الشديد من زفيرها كأنه تردد البكاء.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 480
--------------------------------------------------------------------------------
أَوْسَاطِهِمْ(1)، مُفْتَرِشُونَ لِجَبَاهِهِمْ(2) وَأَكُفِّهِمْ، وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللهِ فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ(3).
وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ، قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ(4)، يَنْظُرُ إِلَيْهمُ الْنَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَض، وَيَقُولُ: قَدْ خُولِطُوا(5)! وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ!
لاَ يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، وَلاَ يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ، فَهُمْ لاَِنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ(6).
إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهْمْ(7) خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ
____________
1. حانُون على أوساطهم من حَنَيْتَ العودَ: عَطَفْتَه، يصف هيئة ركوعهم وانحنائهم في الصلاة.
2. مُفترِشُون لجباههم: باسطون لها على الارض.
3. فكاك الرّقاب: خلاصها.
4. القِداح ـ جمع قِدْح بالكسر ـ: وهو السهم قبل أن يُرَاش. وبَرَاه: نحَتَه، أي رقّق الخوف أجسامهم كما تُرَقَّق السهامُ بالنحت.
5. خُولط في عقله: ما زَجَهُ خَلَلٌ فيه، والامر العظيم الذي خالط عقولهم هو الخوف الشديد من الله.
6. مشفقون: خائفون من التقصير.
7. زُكّيَ أحدهم: مدحه أحد الناس.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 481
--------------------------------------------------------------------------------
غَيْرِي، وَرَبِّي أَعْلَمُ مِنِّي بِنَفْسي! اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ.
فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِين، وَحَزْماً فِي لِين، وَإِيمَاناً فِي يَقِين، وَحِرْصاً فِي عِلْم، وَعِلْماً فِي حِلْم، وَقَصْداً(1) فِي غِنىً، وَخُشُوعاً فِي عِبَادَة، وَتَجَمُّلاً(2) فِي فَاقَة، وَصَبْراً فِي شِدَّة، وَطَلَباً فِي حَلاَل، وَنَشاطاً فِي هُدىً، وَتَحَرُّجاً(3) عَنْ طَمَع.
يَعْمَلُ الاَْعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى وَجَل، يُمْسِي وَهَمُّهُ الشُّكْرُ، وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ، يَبِيتُ حَذِراً، وَيُصْبِحُ فَرِحاً، حَذِراً لَمَّا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ.
إِنِ اسْتَصْعَبَتْ(4) عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيَما تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيَما تُحِبُّ.
قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيَما لاَ يَزُولُ، وَزَهَادَتُهُ فِيَما لاَ يَبْقَى، يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمَ، وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ.
____________
1. قصداً: أي اقتصاداً.
2. التجمّل: التظاهر باليسر عند الفاقة أي الفقر.
3. التحرّج: عدّ الشيء حَرجاً أي إثماً، أي تباعداً عن طمع.
4. استَصْعَبَتْ: لم تطاوعه.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 482
--------------------------------------------------------------------------------
تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ، قَلِيلاً زَلَلُهُ، خَاشِعاً قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُهُ، مَنْزُوراً(1) أَكْلُهُ، سَهْلاً أَمْرُهُ، حَرِيزاً(2) دِينُهُ، مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ، مَكْظُوماً غُيْظُهُ.
الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ.
إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ.
يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ.
بَعِيداً فُحشُهُ(3)، لَيِّناً قَوْلُهُ، غَائِباً مُنْكَرُهُ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَيْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ.
فِي الزَّلاَزِلِ(4) وَقُورٌ(5)، وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ، وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ.
لاَ يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ، وَلاَ يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ.
يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ.
____________
1. مَنْزُوراً: قليلاً.
2. حَرِيزاً: حصيناً.
3. الفُحْش: القبيح من القول.
4. في الزلازل: الشدائد المُرْعِدة.
5. الوَقُور: الذي لا يضطرب.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 483
--------------------------------------------------------------------------------
لاَ يُضَيِّعُ مَا اسْتُحْفِظَ، وَلاَ يَنْسَى مَا ذُكِّرَ، وَلاَ يُنَابِزُ بِالاَْلْقَابِ(1)، وَلاَ يُضَارُّ بالْجارِ، وَلاَ يَشْمَتُ بالْمَصَائِبِ، وَلاَ يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ، ولاَ يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ.
إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ، وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ.
نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاء، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَة.
أَتْعَبَ نفسه لاِخِرَتِهِ، وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ.
بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزاهَةٌ، وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنَهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ، لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْر وَعَظَمَة، وَلاَ دُنُوُّهُ بِمَكْر وَخَدِيعَة.
قال: فصعق(2) همّام رحمه الله صعقةً كانت نفسُه فيها.
فقال أميرالمؤمنين(عليه السلام): أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ: هكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ البَالِغَةُ بِأَهْلِهَا؟
فقال له قائل: فما بالك يا أميرالمؤمنين ؟
فقال(عليه السلام): وَيْحَكَ، إِنَّ لِكُلِّ أَجَل وَقْتاً لاَ يَعْدُوهُ، وَسَبَباً لاَ يَتَجَاوَزُهُ، فَمَهْلاً، لاَ تعُدْ لِمِثْلِهَا، فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ!
____________
1. لاينابز بالالقاب: لا يدعو اللقب الذي يكره ويشمئز منه.
2. صَعِقَ: غُشيَ عليه.
الثلاثاء 29 مارس 2011 - 10:36 من طرف ابو الفضل
» افتتاح منتدى أسئلة الشيعة من أهل السنة http://www.alsoal.com/forum
الثلاثاء 16 نوفمبر 2010 - 22:41 من طرف ali110ali
» استفتاءات السيد السيستاني الايميل الجديد للاجابة السريعة http://www.alsistani.org
الأربعاء 6 أكتوبر 2010 - 10:43 من طرف ali110ali
» اكثر من 2000 سؤال و اشكال على مذهب اهل السنة
الإثنين 3 مايو 2010 - 10:43 من طرف ali110ali
» موسوعة أسئلة الشيعة من أهل السنة
الأربعاء 14 أبريل 2010 - 18:31 من طرف ali110ali
» الرسالة الوثيقة في ثبْت لفْتة الحقيقة
الإثنين 8 فبراير 2010 - 23:12 من طرف عاشق المجتبى
» سقوط طائرة اثيوبية على متنها 92 راكبا بعد اقلاعها من مطار بيروت
الأربعاء 27 يناير 2010 - 21:32 من طرف ابو الفضل
» نبذة وصور عن ضحايا الطائرة الاثيوبية المنكوبة
الأربعاء 27 يناير 2010 - 21:21 من طرف ابو الفضل
» سيرة سيد الشهداء الإمام الحسين (ع)
الأربعاء 30 ديسمبر 2009 - 21:03 من طرف eben yanouh
» قصيدة بولس سلامة في الامام الحسين ع
الإثنين 28 ديسمبر 2009 - 23:20 من طرف ابو الفضل
» قصيدة بولس سلامة في مدح الامام علي ع
الإثنين 28 ديسمبر 2009 - 23:13 من طرف ابو الفضل
» دعاء الخضر
الأحد 27 ديسمبر 2009 - 1:50 من طرف ابو الفضل
» حسن زيات من بلدة طيردبا يخطط اكبر مصحف في العالم
الأحد 15 نوفمبر 2009 - 23:12 من طرف ابو الفضل
» عجوز تتكلم القرآن
الأربعاء 21 أكتوبر 2009 - 22:00 من طرف ملاك
» عجوز تتكلم القرآن
الأربعاء 21 أكتوبر 2009 - 21:59 من طرف ملاك
» من الحكم الرائعة
الجمعة 16 أكتوبر 2009 - 23:35 من طرف وداد
» سيرة الامام الصادق(ع)
الأربعاء 14 أكتوبر 2009 - 23:00 من طرف ابو الفضل
» ماذا سيحصل في العام 2012 وهل ستكزن نهاية العالم
الجمعة 2 أكتوبر 2009 - 22:13 من طرف ابو الفضل
» ما أدراك يــا موالي ما فاطمة
الجمعة 2 أكتوبر 2009 - 21:58 من طرف ابو الفضل
» ارتباط اكل الفول بقلة التركيز
الجمعة 2 أكتوبر 2009 - 21:45 من طرف ابو الفضل
» متى نسمي اولادنا
الجمعة 2 أكتوبر 2009 - 21:40 من طرف ابو الفضل
» فضل زيارة الامام الحسين عليه السلام
الجمعة 2 أكتوبر 2009 - 21:36 من طرف ابو الفضل
» طريق الحضايا
الأحد 16 أغسطس 2009 - 22:36 من طرف ابو الفضل
» أمير المؤمنين يمازح سلمان الفارسي
السبت 25 يوليو 2009 - 17:05 من طرف رانيا جابر
» هل تعرف سبب تسميه العباس بباب الحوائج؟؟
السبت 25 يوليو 2009 - 16:57 من طرف رانيا جابر